(ذاكرة الأرض وأصالة الانتماء…في قرى اللاذقية التركمانية بين البحر والجبل)

الدكتور مختار فاتح بي ديلي

على امتداد الساحل السوري، حيث ينكسر ضوء البحر على سفوح الجبال الخضراء، تمتدّ أرض باير بوجاق، تلك الرقعة المباركة التي حملت عبر القرون روح التركمان ولهجتهم وصلابتهم. هي ليست مجرد منطقة، بل لوحة من التاريخ والجغرافيا والذاكرة، تمتد من البدروسية الساحلية إلى أعماق الجبل التركماني، مرورًا بقرى ومزارع وبيوتٍ ما زالت تذكر أسماء من عاشوا فيها، رغم أن الغربة أخذت كثيرين منهم بعيدًا.

من البحر إلى الجبل.. خريطة الذاكرة

حين يسير المرء من الساحل باتجاه الجبل، تبدأ القرى التركمانية بالظهور كأنها سطور محفورة على الأرض:
البدروسية، عيسى بغللي، طورنج، صليب التركمان، برج إسلام، حارة علي جمال، امتللي، فاقي حسن، توبركلي، الكشيش، جلقاملية، فاقلية، كيسجيك (قسطل معاف)، دالي حسنلو، تركمانلي، حاوشلي، كرنكول، زنزف، قابا مازي، بيت منلا محمود، بيت عيوش، جامرلي، السرايا، شكرت علي كوجك، الملي، بيوك الملي، عوانلي، قزللي، ملقلي، قنطرة، كوك ضاغ، قره باجكلي، حمكلي، يوموجاق، شردقلي، بلدرلي، شرن، درويشان، ابلقلي، فرنلق، كبير، شوقران، مورطلو، كبرة (كبلية)، نسيبين، جوقورجاق، قبقلية، جانلي، قولجق، شومران، اقجه باير، عيسى بنار، ياماضية، كلز، سللور، صراف، قرامنلي، قاي باشي، قالابا…

غير أن بين هذه الأسماء الكبيرة تختبئ قرى صغيرة ومزارع منسية، مثل كفركلية، بيرجك، حورانلي، تلّ جرادي، مرجانة، بوزجاق، أوزن جق، كرملي، جوبة التركمان، تاشلي، قره كوي، بليلية، جوموشلي، قايا باشي الصغيرة، وادي زكّور، القلع، عين الكروم، جوبة سارية، بيت علي شاه، بوزتيبه، كفرحجار، بيت عبدو، ميدانلي، عين الدلبة، وادي الحويش، بيت نعمان، وتلة الحصان… وهي جميعًا نقاط مضيئة في الذاكرة التركمانية، حتى لو لم ترد في السجلات الرسمية، فإنها حيّة في وجدان أهلها.

أرض الأجداد وجغرافيا الانتماء

تتميّز منطقة باير بوجاق بطبيعتها المركّبة: ساحلٌ غنيّ بالزيتون والحمضيات، وجبالٌ تكسوها أشجار الغار والسنديان والصنوبر، وأودية تتدفق فيها الينابيع العذبة. هذه الجغرافيا كانت السبب في استقرار القبائل التركمانية منذ القرون الوسطى، حين كانت تتنقّل بين الأناضول والشام طلبًا للكلأ والماء.
استقر التركمان هنا لأن الأرض تشبههم: قاسية في ظاهرها، كريمة في عطائها.

من السلاجقة إلى العثمانيين: جذور التاريخ

يُجمع الباحثون على أن الوجود التركماني في اللاذقية بدأ مع السلاجقة، ثم ازداد استقرارًا في العهد العثماني، حيث شكّل التركمان في باير بوجاق خط الدفاع الطبيعي عن الساحل السوري، وأوكلت إليهم مهام حراسة الطرق الجبلية بين اللاذقية وأنطاكية.
وكانت قسطل معاف وقالابا وياماضية مراكز نواحي إدارية، فيما بقيت القرى المحيطة تابعة لها من حيث التنظيم والعشيرة والمصاهرة.

القبائل التي سكنت المنطقة تعود في أصولها إلى أفخاذ تركمانية متعدّدة، منها قايي، أوجوز، بايرندار، قره كويونلو، أفشار، دُوغَر، وبيكلي. ومنهم من انتقل لاحقًا إلى ريف حلب وإدلب، فبقيت الصلة قائمة بين “تركمان الجبل” و”تركمان الداخل”.

الهوية واللغة والعادات

رغم محاولات التذويب والاندماج القسري، بقيت اللغة التركمانية تُتداول في البيوت والحقول، وكانت الأمهات يحكين الحكايات القديمة بلهجةٍ أقرب إلى العثمانية القديمة، في حين ظلّ الرجال يستخدمون أسماء تركية للأماكن والجبال والعيون.
ما زال في الجبل حتى اليوم من يقول “قوي باشي” للقمة، و“دره” للوادي، و“آغاج” للشجرة، و“قوش” للطير.
وفي الأعراس والمناسبات، تُعزف الزرنة والطبل، وتُغنّى الأغاني التركمانية القديمة التي تتوارثها الأجيال.

الجبل في زمن المحن

خلال الحرب السورية، كان الجبل التركماني وقرى باير بوجاق من أكثر المناطق التي شهدت تهجيرًا ومعاناة، ومع ذلك بقيت صور البيوت والحقول محفورة في ذاكرة أهلها.
كثير من أبناء الجبل نزحوا إلى الحدود، لكنهم حملوا معهم مفاتيح بيوتهم وصورًا قديمة لأجدادٍ زرعوا الزيتون على التلال، وكأنهم على يقين أن العودة ليست حلمًا بل وعدٌ ينتظر تحقيقه.

المغتربون وحنين العودة

اليوم يعيش عشرات الآلاف من أبناء باير بوجاق في المهجر: في تركيا، وأوروبا، والخليج. ومع ذلك، فإنهم يذكرون قراهم في أحاديثهم اليومية، ويحافظون على الأسماء كما ورثوها:
ياماضية، امتللي، قالابا، صليب التركمان، تركمانلي، زنزف، قاي باشي…
كأنها رموز حياةٍ لا تموت. كتب أحد أبناء الجبل في غربته:

“كتبت الأسماء بالتركمانية العثمانية، لعلّها تذكّر أولادي بأرضٍ لم يولدوا فيها، لكنها تسكن في دمائهم.”

العشائر والعائلات التركمانية في باير بوجاق

تضم باير بوجاق نسيجًا اجتماعيًا واسعًا من العائلات والعشائر التي توارثت الأرض والهوية واللغة، وكان لها دور محوري في حفظ التوازن الاجتماعي والعرفي عبر القرون. من أبرز هذه العائلات والعشائر:
• آل قرامنلي: من أقدم العائلات في الجبل، يرجع نسبهم إلى فرعٍ من قبائل قارامان أوغوللاري الذين استقروا في الساحل العثماني. عُرفوا بالتجارة والعلم، وكان منهم أئمة ومدرسون.
• آل قاي باشي: من نسل القبيلة القايي، التي تنحدر منها سلالة آل عثمان. ينتشر أفرادها بين ياماضية وقاي باشي وامتللي.
• آل امتللي: عائلة واسعة الامتداد، أصلها من قرية امتللي الساحلية، اشتهر أفرادها بالزراعة والصيد وبحماية الساحل في العهد العثماني.
• آل بيوك الملي وآل كوجك الملي: ينحدرون من جذورٍ واحدة، عرفوا بالشجاعة والفروسية، وكان لهم دور في مقاومة الاحتلال الفرنسي.
• آل زنزف وآل كرنكول: من سكان الجبل الأعلى، عُرفوا بتمسكهم بالتراث واللغة، ويُعدّون من أوفى حراس الذاكرة التركمانية.
• آل تركمانلي: عائلة رمزية تحمل اسم الهوية نفسها، وكان منها وجهاء وشخصيات اجتماعية بارزة.
• آل شومران وآل اقجه باير وآل درويشان: ينتشرون في القرى الجبلية العليا، وكانوا من أوائل المشاركين في الدفاع عن قراهم خلال الحرب الأخيرة.
• آل قالابا وآل قنطرة وآل بيت منلا محمود: عرفوا بالعلم والإصلاح الاجتماعي، وكان منهم شيوخٌ وأئمة ووجهاء بين جميع القرى.

تعيش هذه العائلات اليوم بين سوريا وتركيا والمهجر، لكنها ما تزال تحمل في لهجتها ونَسَبها وذاكرتها بصمة الجبل.

الخريطة الوصفية لقرى باير بوجاق:

يمكن تقسيم منطقة باير بوجاق إلى ثلاثة خطوط رئيسية وفق امتدادها من الساحل إلى الجبل:

الخط الساحلي (من البحر إلى السفوح الأولى):

البدروسية – صليب التركمان – برج إسلام – حارة علي جمال – امتللي – فاقي حسن – طورنج – عيسى بغللي – توبركلي – فاقلية – الكشيش – جلقاملية.

قرى هذا الخط تمتاز بأشجار الزيتون والحمضيات وموقعها القريب من البحر، وهي أولى القرى التي استقر فيها التركمان البحّارة والصيادون.

 الخط الأوسط (السهول والهضاب):

قسطل معاف (كيسجيك) – تركمانلي – دالي حسنلو – حاوشلي – زنزف – كرنكول – قابا مازي – بيت منلا محمود – بيت عيوش – جامرلي – بيوك الملي – كوجك الملي – قزللي – ملقلي – قنطرة – كوك ضاغ – قره باجكلي – حمكلي – يوموجاق – شرن – شردقلي – بلدرلي.

هذا الخط يمثل القلب الزراعي لباير بوجاق، وفيه الحقول الواسعة والمزارع، وكان عبر التاريخ محور الحركة الاقتصادية والاجتماعية.

 الخط الجبلي الأعلى (الجبل التركماني):

درويشان – ابلقلي – فرنلق – كبير – مورطلو – شوقران – كبرة (كبلية) – نسيبين – جوقورجاق – قبقلية – جانلي – قولجق – شومران – اقجه باير – عيسى بنار – ياماضية – كلز – سللور – صراف – قرامنلي – قاي باشي – قالابا.

هذه القرى كانت الحصن الطبيعي للجبل التركماني، ومنها خرجت المقاومة ضد الغزاة، وهي أكثر المناطق محافظةً على اللغة والعادات التركمانية الأصيلة.

ذاكرة لا تنطفئ

إنّ باير بوجاق ليست مجرد منطقة جغرافية في ريف اللاذقية، بل هي مرآة الوجود التركماني في الساحل السوري.
هي الأرض التي جمعت بين البحر والجبل، بين اللغة القديمة والمستقبل، بين الصبر والمقاومة.
وحين تكتب الأجيال القادمة أسماء قراها على الورق، فإنها لا توثّق جغرافيا فحسب، بل تحفظ هويةً عمرها قرون.

هذه الأرض – من البدروسية إلى نسيبين، ومن برج إسلام إلى ياماضية –
هي أرض الآباء والأجداد، وذاكرة لا تنطفئ مهما باعدت الغربة بين القلب والتراب.