من قلبِ السهوب الآسيوية إلى أطراف الموصل وكركوك وتلعفر، ومن جبال الأناضول إلى الساحل السوري والبادية، امتدّت القبائل التركمانية عبر قرونٍ طويلة، حاملةً معها لغتها، ورايتها، وثقافتها العريقة التي صاغتها رحلات التاريخ، ومشاقّ الغزوات، وانتصارات الأمة، وتضحيات الرجال والنساء. وعلى امتداد هذه الرقعة الجغرافية الغنية بالتنوع والتاريخ، نشأت الفتاة التركمانية، لا بوصفها ظلًّا للرجل، بل باعتبارها رمزًا للهوية، ومرآةً صادقةً لتراثٍ متجذر في وجدان الأمة
التركمان—أحفاد السلاجقة، والأرتقيين، والقره قوينلو، والآق قوينلو، وسلاطين الفكر قبل السيف—لم يكن وجودهم في بلاد الشام والرافدين طارئًا ولا عابرًا. بل كانوا من أهل الأرض، كما كانوا من أهل الكرامة. ساهموا في بناء المدن، وحراسة الثغور، وصناعة الحضارة، والدفاع عن الهوية الإسلامية والقومية في مختلف المراحل، من العهد العباسي حتى الدولة العثمانية
وفي هذا السياق العريق، لم تكن الفتاة التركمانية خارج معادلة التأثير، بل في صُلبها. فقد كانت الحارسة الأولى للغة حين خفت صداها في المدارس، وكانت راوية القصص حين سكتت الكتب، ومعلّمة الأبناء في البيوت حين تراجعت المؤسسات. لم تغب يومًا عن المشهد، بل كانت صانعة للوعي، وبانيةً للهوية في كل بيت تركماني، تزرع في الأجيال حب الأرض، واحترام الذات، والانتماء الذي لا يتزعزع
إن وقار الفتاة التركمانية لم يكن يومًا حالة عابرة أو طارئة، بل هو ميراثٌ أصيل يعكس روح أمة لا تنحني. هو تجسيد حيّ لذاكرة ثقافية لا تزال تتشبث بجذورها، رغم محاولات التهميش والطمس. إنها ابنة التاريخ، تتوشّح بلباسه المطرّز، وتنطق بلغته العريقة، وتفكّر بصوته المتّزن العميق
في حضورها، تتجسد صورة المرأة التي لا تستعرض، بل تُعبّر، والتي لا تذوب، بل تتجذّر. امرأة لا ترفع صوتها لمجرد الظهور، بل تُسمع حين تتكلم، لأن في حديثها صدى الأمس وقوة اليوم
وفي زمنٍ يتسارع فيه العالم بثقافاته المتناقضة، وتضيع فيه الهويات الأصيلة بين صورٍ نمطية وتسليعٍ سطحي للمرأة، تظل بعض الهويات متجذّرة كأشجار السنديان، لا تزعزعها العواصف، ولا تغريها رياح التغريب. وفي صُلب هذا الثبات، تقف الفتاة التركمانية في سوريا والعراق شامخةً، تحمل إرثًا لا يُقاس بالكم، بل بالعمق؛ إرث الانتماء، والوقار، والجمال الأصيل الذي لا يبهر العين فقط، بل يلامس الروح
إنها ليست مجرّد فتاة في مجتمع محلي، بل مرآةٌ لأمة، وامتداد لسلسلة من القيم التي نسجها التاريخ التركماني على امتداد الهضاب والسهول والجبال. في زيها التقليدي، في لغتها المحببة، في حيائها العفوي، وفي مشيتها الواثقة... نقرأ تاريخًا لا يصدأ، وشرفًا لا يُشترى
فهي لا تتقمّص الوقار كقناع، بل تعيشه كنهجٍ دائم، تمنحه بُعدًا تربويًا وأخلاقيًا، وتُترجمه في تفاصيل حياتها اليومية. ورغم تغيرات العصر، وتبدّل المفاهيم، ومحاولات سلخ الهوية، تظلّ الفتاة التركمانية ثابتة، لا تتصادم مع الحداثة، لكنها تختار منها ما لا يتنافى مع أصالتها
وقارٌ لا يُصطنع... بل يُولد معهن
الوقار لدى الفتاة التركمانية ليس مجرّد مظهر، بل حالة شعورية وثقافية متكاملة تنبع من التربية والهوية والانتماء. إنه انعكاس لفطرة متصالحة مع الذات، تتشكل منذ الطفولة، في حضن الأمهات، وبين الجدّات اللواتي لا ينسين أن يروين حكايات الأرض والشرف والتقاليد. في البيت التركماني، تُربّى الفتاة على أن تكون سفيرة لثقافتها، وصاحبة موقف، لا تُقاس قيمتها بما ترتدي، بل بما تحمل من خلقٍ وأدبٍ وحكمة
من تلعفر وكركوك وماندلي في العراق، إلى جبال باير بوجاق، والساحل السوري من كسب حتى طرطوس، وحلب واعزاز وعفرين شمالًا، مرورًا بحمص وحماة والرقة وإدلب جنوبًا وشرقًا، تحافظ الفتاة التركمانية على حضورٍ هادئ لكنه عميق، يشهد على استمرار نسق اجتماعيّ يعلي شأن المرأة بخصوصيته واعتداله
تتميّز الفتاة التركمانية بزي تقليدي فريد، لا يقتصر على الزينة أو الزخرفة، بل يُعبّر عن انتماء جماعيّ وحسٍّ جماليّ متأصل. الألوان المستخدمة—لا سيما الأزرق الذي يرمز إلى السماء والحرية، والهلال الأبيض المستوحى من رمزية الشعوب التركية—تحمل دلالات تتجاوز المظهر، لتكون رسالة فخر وانتماء
وفي تطريزات الثوب ونقوشه، تُقرأ حكايات الجدّات، ويُستعاد إرث العائلة والقبيلة، فكل خيط وقطعة قماش فيه تحمل ذكرى ومغزى. والأهم من ذلك، هو التزام الزي التركماني بالاحتشام، كمرآة داخلية لحياءٍ أصيل لا يتطلب وصاية أو تبرير، بل ينبع من قناعة داخلية بأن المرأة يمكن أن تكون أنيقةً ومؤثرة دون أن تُفرّط بخصوصيتها وهويتها
في التراث التركماني، تحظى المرأة بمكانة عالية ومحترمة، لا باعتبارها تابعًا أو ظلًا، بل بصفتها نواة العائلة وروح المجتمع. قديمًا، كانت الجدّات قائدات في الرأي، ومراجع في القيم، ومساهمات في صنع القرار داخل الأسرة والقبيلة. وكان يُنظر إلى الفتاة على أنها "حافظة الشرف"، ومربية الأجيال، وحاملة للتراث، ومصدر للقوة الناعمة التي تضبط توازن المجتمع من الداخل
وفي الأعراس والمجالس والمناسبات الدينية والقومية، كان للمرأة التركمانية مكانها الثابت، رأيًا وسلوكًا ومشاركة. هذه المكانة لم تُنتزع من أحد، بل فُرضت بوقار الشخصية، وقوة الحضور، وعمق المعرفة
دور الفتاة التركمانية في قيادة الأسرة لا يُختزل في المهام التقليدية. هي أم ومعلمة، وهي عماد في اتخاذ القرار، ومثال يُحتذى به في التحمل والمسؤولية. وفي العقود الأخيرة، مع التحديات السياسية والاقتصادية التي ضربت المجتمعات التركمانية في العراق وسوريا، كانت المرأة أول من صمد، وأول من أعاد بناء الأسرة في المخيمات، وأول من حمل الهوية في مواجهة التهجير والذوبان
شاركت المرأة التركمانية في الحقل والتعليم والعمل الاجتماعي، لكن دون أن تتنازل عن قيمها، أو تُقلّد نماذج لا تشبهها. ولذلك، تجد حضورها واثقًا، يفرض الاحترام، ويثير الإعجاب من دون أن ترفع صوتها
حشمة الفتاة التركمانية ليست حاجزًا عن الحياة، بل بوابة للكرامة. هي تلبس ما يُرضي ضميرها، وتسلك طريقًا يليق بثقة أهلها بها، وتتحرك في المجتمع بشخصية قوية تعرف حقوقها، وتحترم حدود الآخرين
هذه الحشمة ليست انغلاقًا ولا عزلة، بل توازن فريد بين الخصوصية والانفتاح. فهي تتابع دراستها، وتعمل، وتشارك في العمل العام، لكنها تفعل ذلك من منطلق ذاتي أصيل، يرى في المرأة شخصية متكاملة، لا سلعة استهلاكية
ما عرفه التركمان من نزوح وحروب وتمييز عرقي لم ينل من ثقة الفتاة بنفسها. بل لعله زادها تمسكًا بهويتها. فقد كانت في الصفوف الأولى من المقاومة الناعمة؛ تكتب، وتعلّم، وتبني الأجيال في صمتٍ، وتُذكّر الجميع بأن الانتماء لا يُقاس بالحدود، بل بالوفاء
حملت الفتاة التركمانية الهوية في حقيبة اللجوء، ولبست ثوبها القومي في المخيم، وتحدثت لغتها مع أبنائها، وعلّمتهم أن الوقار لا يُشترى، بل يُورث ويُحترم
وهكذا، فإن الحديث عن الفتاة التركمانية في سوريا والعراق، ليس حديثًا عن أنثى عادية في مجتمعٍ عابر، بل هو حديث عن أيقونة إنسانية وهُوية ثقافية وحضارية متكاملة. إنها ليست مجرد فتاة تُزيّنها الحشمة أو يُعجب الناس برزانتها، بل هي كيان متكامل يُشكّل حجر الأساس في بناء الأسرة، وحاملة لمفاتيح اللغة، والتاريخ، والوعي الجمعي
وقارها ليس انغلاقًا، بل وعي. حشمتها ليست ضعفًا، بل كرامة. جمالها ليس استعراضًا، بل امتدادٌ لعاطفة نقيّة وثقافة أصيلة. هي تتعلم، وتُعلّم، وتُربّي، وتشارك في بناء مجتمعها، دون أن تتنازل عن ملامحها التي تُميزها، أو تُفرّط في هويتها التي توارثتها عن نساء لم ينحنين إلا لله، ولم يفرطن يومًا في شرف الكلمة أو نقاء السلوك
في زمن باتت فيه القيم في مهبّ التشكيك، تظل الفتاة التركمانية في سوريا والعراق نموذجًا يُحتذى. فهي لا تُمثّل نفسها فقط، بل تُمثّل إرثًا يتحدى الغياب، ويصرّ على البقاء بهدوء، دون صراخ، لكن بثباتٍ يحفر أثره في الذاكرة الجماعية لكل من يعرف معنى الكرامة والاعتزاز بالهوية
إنها، بحق، مرآة شعب، وأمينةُ تراث، وحارسةُ وجدان. وفي حضورها، نتعلم أن الأنوثة ليست في الظهور، بل في الثبات... وأن الجمال الحقيقي لا يُقاس بالعين، بل يُلمَس بالروح
الفتاة التركمانية ليست فقط فردًا في أسرة، بل مرآة أمة بأكملها. هي تجسيد لجمالٍ هادئ لا يتوسل القبول، ووقارٍ راسخ لا يحتاج إلى تبرير. إنها لوحة مرسومة بألوان الانتماء والكرامة، وكتابٌ يُقرأ فيه تاريخ من الكبرياء، تُجسّده امرأة تمشي بثبات، وتتكلم بحكمة، وتُربّي على الشرف
في زمنٍ قد تلتبس فيه المعايير، تظل الفتاة التركمانية نورًا هادئًا لكنه لا يخبو، لأنها ببساطة... تعرف من تكون، وتفخر بذلك
الدكتور مختار فاتح