الوجود التركماني في سوريا
من العصور الوسطى حتى العثمانية بدأت الهجرات التركمانية إلى سوريا منذ القرن الحادي عشر في عهد السلاجقة، وخاصة بعد انتصارهم في معركة دنداناقان عام 1040م. أشادت جماعات مثل البييديلية والآفشار والأيوبي بأدوارهم العسكرية وضمّوا أراضٍ تحت سيطرتهم .خلال حكم المماليك والعثمانيين، استقر التركمان في مناطق مثل حلب، الرقة، جبال الساحل السوري (جبل التركمان في اللاذقية)، وحمص وحماة والجولان وبلدات أخرى عديدة
سياسات "الإسكان القسري" العثمانية حاولت تثبيت القبائل والعشائر في مناطق محددة، مما أدى إلى رفض بعض منهم مثل فيريز باي للهجرة نحو إيران، بينما قرر آخرون مثل قوجه غانم البقاء والتفاوض بدل الرحيل
لم يكن وجود التركمان في سوريا حالة عرضية أو جديدة، بل هو امتداد لتاريخ طويل يعود لعصور السلاجقة والعثمانيين. ورغم محاولات التهميش السياسي والثقافي، ظل التركمان أحد الركائز الاجتماعية المهمة في شمال ووسط سوريا. في هذا الإطار، يظهر اسم قوجه غانم البكمشلي كزعيم قبلي بارز، أسس لاستقرار المجتمع التركماني في الشام بعد رحيل فيريز باي، بما شكّل نقطة تحوّل في مسارهم الجماعي
رغم ذلك، أعتمد النظام السوري في القرن العشرين سياسات "تعريب" وتهميش، ما أسفر عن تراجع اللغة والثقافة التركمانية في بعض المناطق مثل حمص وحماة وادلب والرقة والجولان وطرطوس
التقديرات تختلف بشأن عددهم الحقيقي، فمنها تقديرات حكومية تشير إلى نحو مليون ونصف نسمة بينما يشير آخرون إلى أن عددهم يتجاوز 3 ملايين، بما في ذلك الذين تمّ "عربنتهم" وتوقفوا عن استخدام لغتهم الأصلية
يعيش التركمان اليوم في
في شمال سوريا مثل حلب ومناطقها في الباب واعزاز وجرابلس وعفرين ومنبج كذلك في الرقة وتل الابيض وعلى ضفاف شرق الفرات
في الساحل السوري في جبل التركمان جنوب اللاذقية منطقة باير بوجاق وطرطوس وفي ادلب ومناطقها كذلك في حماة وحمص ومناطقها مثل بلدة تلكلخ وبلدة الزارة وقرية البكمشلية وقرية العقرب غرب مدينة حماة وفي دمشق وبعض ضواحيها مثل منطقة الرحيبة ويقطن الكثيرون في منطقة الجولان السوري المحتل والقنيطرة وفي بعض القرى والبلدات في درعا
قوجه غانم البكمشلي: رجل المرحلة القبائلية العشائريّة
بعد رحيل فيروز باي ومعه قسم كبير من عشيرة بايديلي شرقًا رفضًا لسياسات التوطين الإجباري، خَلَفَهُ قوجه غانم البكمشلي، وهو زعيم من فرع البكمشلي ضمن قبيلة بايديلي. استلم القيادة القبائل التركمانية من عام 1695 (عهد السلطان أحمد الثاني) واستمرّ حتى نحو 1730 ميلاديًا
استقر مع إخوته في منطقة الجولاب بين بلدة سلوك وقرية حمام التركمان في شمال محافظة الرقة
يُنسب له قبر يُعرف بـ"قبر قوج" أو (غابرغوج)، لا تزال التلة موجودة في التراث الشعبي المحلي
عمل على تثبيت تموضع التركمان في سوريا عبر التفاوض مع السلطات العثمانية، وقبول التوطين مقابل امتيازات مثل أراضٍ زراعية وسلطة محلية وحماية للقوافل
نسبه وأهل بيته
ذكرت المصادر أن له أربعة أبناء من زوجته كوجك خاتون: محمد، أحمد، عبد الإله، جلبي؛ وقد شكّل أبناءه مجموعات سياسية واجتماعية فيما بعد، مثل: المحمدلية، دال أحمدية، الجلبية وغيرها. كما أن ابنه الأصغر، الحاج علي، مثّل قبيلته أمام الباب العالي في إسطنبول لحماية النظام القبائلي العشائري بعد إحدى النزاعات الخطيرة التي تسببت فيها حادثة مقتل الحكمدار العثماني في المنطقة — مما أنقذ باقي القبيلة من عقوبات قاسية
أهم إنجازاته
قيادة الكتلة الباقية من قبائل بايديلي التركمانية والتي رفضت الرحيل والرجوع الى بلاد خراسان ، حيث وحد البقية الباقية من قبائل التركمانية شمال سوريا الذين مازالوا موجودين الى يومنا هذا
إقامة أساس الاستقرار التركماني في مناطق مثل تل أبيض، الرقة، الطبقة، والباب وجرابلس على ضفاف نهر الساجور
ضمان امتيازات محلية مرنة ضمن إطار الدولة العثمانية، ما مهد لاستمرار الوجود التركماني حتى اليوم
رغم نفوذه، لم يكن قوجه غانم القائد العام لكل الفروع؛ كان ممثل الأغلبية الباقية التي اختارت البقاء والتفاوض داخليًا بدلاً من الرحيل شرقًا
لم يكن قوجه غانم البكمشلي مجرد زعيم قبلي عشائري، بل كان رمزًا لحكمة التمثّل والبراغماتية في مرحلة مفصلية من تاريخ التركمان في سوريا. قيادته جاءت في لحظة تقاطع السلطة المركزية مع التحديات القبائلية العشائرية، فاختار مسار الاستقرار بدلاً من الصراع المفتوح
اليوم، ما يزال صدى قراراته باقياً: في التركيبة السكانية، التمدد الجغرافي، وحتى في الوعي الجماعي للمجتمعات التركمانية. اسمه قد لا يكون بارزًا في الكتب التاريخية الرسمية، لكن حضوره لا يُمحى في ذاكرة الشام العشائرية والعربية بقي اسمه حيًا في التراث الشعبي بفضل فعاليته التفاوضية وحكمته القيادية
ما زال وجوده محسوسًا اليوم في التركيبة الاجتماعية للمناطق التركمانية (مدينة الرقة، تل الابيض ، الطبقة، وفي حلب جرابلس، اعزار ،الباب حمص وحماة في تلكلخ والزارة والعقرب )، وأسماء أسره وأبنائه ما تزال معروفة في تلك المناطق. هو رمز للاستمرارية رغم التحديات، وجسر بين التراث القبائلي العشائري والهوية الوطنية المعاصرة
الدكتور مختار فاتح