في زوايا التاريخ العراقي الحديث، تُسرد ثورة العشرين بوصفها ملحمة وطنية عظيمة ضد الاحتلال البريطاني عام 1920، ولكن تغيب ـ أو يُغَيَّب ـ عن كثير من السرديات الرسمية حقيقةٌ جوهرية: أن أولى شرارات هذه الثورة لم تنطلق من الفرات الأوسط، بل من مدينة تلعفر التركمانية، تحت اسم شعبي بسيط لكنه بالغ الدلالة، ثورة قاچ قا چ.
بداية النار من الشمال
في تلعفر، المدينة التركمانية العريقة، كان الغليان الشعبي ضد الاستعمار البريطاني قد بلغ ذروته بعد سلسلة من الانتهاكات والإهانات التي تعرض لها الأهالي، مما دفع العشائر التركمانية، وعلى رأسها عشيرة المراغلي من فخذ البيات، إلى حمل السلاح والدخول في مواجهة مسلحة مباشرة ضد المحتل.
أُطلق على هذه المقاومة اسم ثورة قاچ قاچ، وهو اسم مستوحى من صوت الرصاص والاشتباكات (قاچ... قاچ)، التي شهدتها أزقة تلعفر وبساتينها، حيث وقف الرجال البسطاء بكل شجاعة أمام جنود الإمبراطورية البريطانية المدججين بالسلاح.
من تلعفر إلى ربوع العراق
ما إن اندلعت الشرارة في تلعفر، حتى بدأت نيران الثورة تنتقل إلى مناطق أخرى من العراق، لتحوّل الغضب المحلي إلى ثورة وطنية شاملة. كانت تلعفر بمثابة القداحة التي أشعلت الشعلة الكبرى، ولكن مع الأسف، جرى في ما بعد تقليص هذا الدور في معظم الكتب المدرسية والسرديات الرسمية.
البطولة التركمانية المغيبة
قاتل التركمان التلعفريون ببسالة نادرة، وسقط منهم شهداء في سبيل استقلال الوطن، وساهموا في إرباك الخطط العسكرية البريطانية في شمال العراق، إلا أن دورهم لم يُذكر بما يليق في أغلب المراجع الرسمية، إما عن جهل أو تجاهل متعمد ضمن لعبة التوازنات السياسية والعرقية في عراق ما بعد الاستقلال.
الشعار الذي هزّ الاحتلال، الطوب أحسن لو مگوار؟
من بين أبرز ملامح الثورة، كان الشعار الشهير:
"الطوب أحسن لو مگوار؟"
في تحدٍّ واضح لقوة المستعمر، عكس هذا الهتاف الإيمان العميق بالحق وعدالة القضية رغم تواضع العُدّة والعتاد.
لقد وحّد هذا الشعار العراقيين كافة، من الجنوب إلى الشمال، لكنه بدأ أولاً من أفواه المقاومين في تلعفر، الذين حملوا المگوار قبل أن يحمل غيرهم الطوب.
شهادات ومراجع تؤكد
رغم قلة التوثيق الرسمي، هناك مراجع ومؤرخون أشاروا إلى البداية التلعفرية للثورة، مثل:
عبدالرزاق الحسني في كتابه تاريخ ثورة العشرين، حيث يلمّح إلى تحركات مبكرة في مناطق الشمال.
شهادات شفوية محلية أُخذت من شيوخ عشائر البيات والمراغلي في تلعفر.
بحوث جامعية منشورة في كلية الآداب بجامعة الموصل حول دور المناطق التركمانية في المقاومة الوطنية.
لماذا نُسيت تلعفر؟
من الطبيعي أن تُغيّب بعض الأدوار حين تُكتب فصول التاريخ بيد السلطة أو تحت ضغط التوازنات الطائفية والقومية. ولكن الحقيقة لا تموت، بل تنتظر من ينفض الغبار عنها ويضعها في موضعها الصحيح، لا عن تعصّب، بل عن وفاء للعدالة التاريخية.
ثورة قاچ قاچ ليست مجرد حدث محلي، بل هي المفتاح لفهم طبيعة الروح الوطنية العراقية في وجه الاحتلال. وقد آن الأوان لإعادة الاعتبار لهذه الصفحة المجيدة من تاريخ العراق، وإعطاء تلعفر والتركمان حقهم في ذاكرة الأمة.
Evet 262 Kişi
Hayır 8 Kişi